[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]1886-
7 195
يقول طه حسين:
"لقد اهدى احمد امين الى العالم الحديث بتاليف فجر الاسلام وضحاه وظهره كنزاً
من اقوم
الكنور واعظمها حظاً من الغنى
واقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والاصراح." في حياتي يسعى احمد
امين لتقديم صورة صادقة عن نموه منذ مراحل الطفولة الباكرة حتى اواخر عمره ،
موضحاً كيفية تكون الشخصية التي قدمت للعالم العربي فجر الاسلام . فقد كان
من المعتقدين بدور البيئة في خلق الشخصية ، اذ يقول في بداية سيرته : "كل
انسان - الى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه وما اكتسبه من بيئته التي
احاطت به ." وهو يذكر في هذا السياق عوامل عدة منها تاثير اسرته التي ترعرع
في ظلالها عليه ، والحارة التي ترعرع فيها ، الكتاب والازهر . ثم يصف عمله الجامعي
كاستاذاً بكلية الاداب وعميداً لها.
في الصفحات التالية ، يصف احمد امين
تجاربه الاولى مع اسرته ، ويوضح كيف اثرت في شخصيته لاحقاً. فالقسوة في معاملته
كطفل تدفعه للجدية، ولعدم القدرة على مشاركة الاخرين الافراح، بل انه يبات جدياً
اقرب للكابة في طبعه طوال العمر. هو يصف ايضاً مساعيه لتوسيع حدود تعليمه التراثي
في الازهر عن طريق تعلم اللغة الانجليزية،وتاثير القراءة باكثر من لغة على اسلوبه
في التفكير. بل انه يقدم رؤية خاصة للغة العربية وكيفية استخدام المحدثين لها ، اذ
يدعوا للغة بسيطة يقدر القاريء العادي على فهمها. سيجد القاريء هنا ايضاً وصفاً
لزواج احمد امين وتحليلاً لمزايا وشرور العلاقة الزوجية يتميز بصراحة يندر ان نعثر
عليها في ادب المذكرات العربي المعاصر .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وتموت الحشرات والهوام ، ولكنها تتحلل في تراب
الارض فتغذي النبات والاشجار . قد يتحول النبات والاشجار الى فحم ، ويتحول الفحم
الى نار، وتتحول النار الى غاز ، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم . حتى اشعة الشمس التي
تكون الغابات وتنمي الاشجار تُختزن في
الظلام، فاذا سُلطت عليها النار تحولت الى ضوء وحرارة وعادت الى سيرتها
الاولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والافكار
والاحيلة ، تبقى ابداً ، وتعمل عملها ابداً. فكل ما يلقاه الانسان من يوم ولادته ،
وكل ما يلقاه اثناء حياته ، يستقر في قرارة نفسه ، ويسكن في اعماق حسه، سواء في
ذلك ما وعى وما لم يعي، وما ذكر وما نسى ، وما لذ وما آلم. فنبحة الكلب يسمعها ،
وشعلة النار يراها ، وزجرة الاب او الام يتلقاها ، واحداث السرور والالم تتعاقب
عليه. كل ذلك يتراكم ويتجمع ، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا
التفاعل اساساً لكل ما يصدر عن الانسان من اعمال نبيلة وخسيسة-وكل ذلك ايضاً هو
السبب في ان يصير الانسان عظيماً او حقيراً ، قيماً او تافهاً. فكل ما لقينا من
احداث في الحياة ، وكل خبرتنا وتجاربنا ، وكل ما تلقته حواسنا او دار في خلدنا هو العامل
الاكبر في تكوين شخصياتنا - فان رايت مكتئباً بالحياة ساخطاً عليها متبرماً بها ،
او مبتهجاً بالحياة راضياً عنها متفتحاً قلبه لها ، او رايت شجاعاً مغامراً كبير
القلب واسع النفس ، او
ما انا الا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى ابائي من أحداث. فالمادة لا
تنعدم وكذلك المعاني. قد يموت الطير
جباناً ذليلاً خاملاً
وضيعاً ضيق النفس ، او نحو ذلك ، فابحث عن سلسلة حياته من يوم ان تكون في ظهور
ابائه - بل قد تحدث الحادثة لا يابه الانسان بها وتمر امام عينيه مر البرق، او
يسمع الكلمة العابرة لا يقف عندها طويلاً ، او يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة ،
فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبيء في عالمه اللاشعوري ، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات
لسبب من الاسباب فتكون باعثاً على عمل كبير او مصدراً لعمل خطير . وكل انسان - الى
حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن ابائه ، وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به .
ولو ورث أي انسان ما
ورثت ، وعاش في بيئة كالتي عشت، لكان اياي او ما يقرب مني جداً.
لقد عمل في تكويني
الى حد كبير ما ورثت عن آبائي ، والحياة الاقتصادية التي تسود بيتنا ، والدين الذي
يسيطر علينا ، واللغة التي نتكلم بها ، وادبنا الشعبي الذي كان يروي لنا ونوع
التربية الذي كان مرسوماً في ذهن ابوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو
ذلك . فانا لم اصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة
والبيئة .
عجيب هذا العالم ، ان
نظرت اليه من زاوية رايته كلاً متشابهاً ، بتجانس في تكوين ذراته ، وفي بناء
اجزائه ، وفي خضوعه لقوانين واحدة ، وان نظرت اليه من زاوية اخرى رايت كل جزيئة
منه تتفرد عن غيرها بمميزات خاصة بها، لا يشاركها فيها غيرها . حتى شجرة الورد
نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها . فمن الناحية الاولى تستطيع ان تقول :
ما اشبه الانسان بالانسان. ومن الناحية الثانية تقول: ما اوسع الفرق بين الانسان
والانسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فانا عالم وحدي ،
كما ان كل انسان عالم وحده . تقع الاحداث على اعصابي ، فانفعل لها انفعالا خاصاً
بها، واقومها تقويماً يختلف - قليلاً او كثيراً - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري.
فالحادثة الواحدة يبكي منها انسان ، ويضحك منها آخر، ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث
، كأوتار العود الواحد ، يوقع عليها كل فنان توقيعاً منفرداً متميزاً لا يساويه
فيه أي فنان آخر.
فانا اروي من الاحداث ما تاثرت به نفسي ،
واحكيها كما رات عيني ، واترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري.
-3-
كانت اول مدرسة تعلمت
فيها اهم دروسي في الحياة بيتي. وقد بني أبي - بعد ان تحسنت حاله -بيتاً مستقلاً
في الحارة التي يسكنها هو وأخوه ، يتكون من دورين غير الارضي. ففي الدار الارضي
منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان
البساطة والنظافة . فاثاث اكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة ، واذا كانت حجرة نوم
رأيت في ركن من اركانها حشية ولحافاً ومخدة ، تطوي في الصباح وتبسط في المساء .
فلم نكن نستخدم الاسرة . وادوات المطبخ في غاية السذاجة . وهكذا ، ولو اردنا ان
ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الاثاث. اما اكثر ما في البيت واثمنه وما يشغل اكبر
حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب ، وحجرة ابي مملوءة
بالكتب وحجرة في الدور الاول ملئت كذلك بالكتب .
وكان ابي مولعاً
بالكتب في مختلف العلوم ، في الفقه ... والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والادب
والنحو والصرف والبلاغة ، واذا كان الكتاب مطبوعاً طبعتين : طبعة اميرية وطبعة
اهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة اميرية ، وقد مكنه عمله مصححاً في المطبعة الاميرية
ان يقتني كثيراً مما طبع فيها وكانت هذه الكتبة اكبر متعة لي حين استطت الاستفادة
منها . وقد احتفظت بخيرها واتخذته نواة لمكتبتي التي اعتز بها وامضي الساعات فيها
كل يوم الى الان .
في حجرة في هذا البيت
ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحاً من أول اكتوبر سنة 1886، وكأن هذا
التأريخ كان ارهاصاً باني سأكون مدرساً فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء
الله ان اكون كذلك . فكنت مدرساً في مدرسة ابتدائية ، ثم في مدرسة ثانوية ثم في
عالية ، وكنت مدرساً لبنين وبنات ، ومشايخ وافندية ، وكنت رابع ولد وُلد. ولم يكن
ابي يحب كثرة الاولاد شعوراً منه بالمسؤولية ، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة
اختى ابشع وفاة.
فقد كان لي اخت في
الثانية عشرة من عمرها شاء ابي الا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها الى معلمة
تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز . وقامت يوماً بعد القهوة لضيوف المعلمة
فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت ان تطفيء نفسها اول الامر فلم تنجح
فصرخت ، ولكن لم يدركوها الا وهي شعلة نار ، ثم فارقت الحياة بعد ساعات. وكان ذلك
وانا حمل في بطن امي . فتغذيت دماً حزيناً ورضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً،
واستقبلت عند ولادتي استقبالاً حزيناً. فهل كان لذلك اثر فيما غلب علي من الحزن في
حياتي فلا افرح كما يفرح الناس ، ولا ابتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله
والراسخين في العلم .
وكان من محاسن اسرتنا استقلالنا في
المعيشة وفي البيت ، فلا حماة ولا أقارب الا ان يزوروا لماماً .
وكان بيتنا محكوماً
بالسلطة الابوية : فالاب وحده مالك زمام اموره ، لا تخرج الام الا باذنه ، ولا
يغيب الاولاد عن البيت بعد الغروب حوفاً من ضربه ، ومالية الاسرة كلها في يده يصرف
منها كل يوم ما يشاء كما يشاء ، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل ، يشعر
شعوراً قوياً بواجيه نحو تعليم أولاده ، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في
مدارسهم ، سواء في ذلك ابناؤه وبناته ، ويتعب في ذلك نفسه تعباً لا حد له ، حتى
لقد يكون مريضاً فلا يأبه بمرضه ، ويتكيء على نفسه ليلقي علينا درسه. اما ايناسنا
وادخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت اليه، ولا يرى انه واجب
عليه ، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته ، وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب
احدنا ، وفي الغيبة اذا عرضت لاحد منا ، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي ، يأكل
وحده ويتعبد وحده ، وقلما يلقانا الا ليقرئنا . أما احاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع
امنا .
وقد كان لنا جدة - هي
ام امنا - طيبة القلب شديدة التدين ، يضيء وجهها نوراً ، تزورنا من حين لآخر ،
وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها ، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية
منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا
نزال كذلك حتى يغلبنا النوم ، وهي قصص مفرحة احياناً مرعبة احياناً ، منها مايدور
حول سلطة القدر وغلبة الحظ ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن ، ومنها حول
العفاريت وشيطنتها ، والملوك والعظماء وذلهم امام القدر "الخ" ، وتتخلل
هذه القصص الامثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز عليها مغزى القصة .
ولكن كان بيتنا-على
الجملة- جداً لا هزل فيه ، متحفظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير ، وذلك من جد
أبي وعزلته وشدته .
ولم تكن المدنية قد
غزت البيوت ، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى امثالنا. فلا ماء يجري في البيوت وانما هو
سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل عنه
المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة . والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة
، وحسابه لكل بيت عسير ، اذ هو ياخذ ثمن مائه كل اسبوع. فتارة يتبع طريقة ان يخط
خطاً على الباب كلما احضر قربة . ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطاً او خطين
، لذلك لجأ لاسقاء الى طريقة "الخرز" فيعطي البيت عشرين خرزة ، وكلما
احضر قربة اخذ خرزة ، فاذا نفذت كلها حسب اهل البيت عليها .
وأخيراً - وانا فتى -
رأيت الحارة تحفر والانابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت واذا الماء في
تناولنا وتحت أمرنا ، واذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط
او الخرز يوزع .
وطبيعي في مثل هذه
الحال الا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول ، ولم نستضيء
بالكهرباء حتى فارقت حينا الى حي آخر أقرب الى الارستقراطية .
وطعامنا يطهى على
الخشب ثم تقدمنا فطهينا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا اخيراً فطهينا على
(وابور بريمس)
وكل اعمال البيت تقوم
بها امي . فلا خادم وخادمة ولكن يعينها على ذلك ابناؤها فيما يقضون من الخارج ،
وكبرى بناتها في الداخل .
وكان ابي مدرساً في
الازهر ومدرساً في مسجد الامام الشافعي وامام مسجد ويتقاضي من كل ذلك نحو انثي عشر
جنيهاً ذهباً . فلم نكن نعرف عملة الورق ، واذكر -وانا في المدرسة الابتدائية - ان
ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجوائد الهزلية عليها .
وكانت لا تقع في يد الناس-وخاصة الشيوخ - حتى يسرعوا الى الصيارف فيغيروها ذهباً.
وكانت الاثنا عشر جنيهاً تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع ابي ان يدخر منها
للطواريء ، اذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الاريعين جنيهاً والخمسين اليوم ، فعشر
بيضات بقرش ، ورطل اللحم بثلاثة قروش او اربعة ورطل السمن كذلك وهكذا . ومن ناحية
اخرى كانت مطالب الحياة محدودة وعيشتنا بسيطة. فابي من بيته الى عمله الى مسجده ثم
الى بيته ، لا يدخن ولا يجلس على مقهى ، وملابسنا جميعاً نظيفة بسيطة ، ومأكلنا
معتدل ليس بضروري فيه تعدد اصنافه، ولا اكل اللحم كل يوم . ولم نر فيمن حولنا عيشة
خيراً من معيشتنا تشقي بالطموح الى ان نعيش مثلها ، ولا سينما ولا تمثيل. ولكن من
حين لآخر نتصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها "قرة جوز" ادخل اليها بنصف
قرش ويكون ذلك مرة في السنة او مرتين .
وغمر البيت الشعور
الديني: فابي يؤدي الصلوات لاوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحاً ومساء ، ويصحو
مع الفجر ليصلي ويبتهل ، ويكثر من قراءة التفسير والحديث ، ويكثر من ذكر الموت
ويقل من قيمة الدنيا وزخرفتها
ويحكي حكايات الصالحين واعمالهم وعبادتهم ، ويؤدي الزكاة يؤثر بها اقرباءه ويحج
وتحج امي معه - ثم هو يربي اولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم
في اوقات الصلاة الاخرى ويسائلهم متى صلوا واين صلوا . وامي كانت تصلي الحين بعد
الحين ، وكلنا يحتفل برمضان ويصومه- وعلى الجملة فانت اذا فتحت باب بيتنا شممت منه
رائحة الدين ساطعة زاكية ، ولست انسى يوماً اقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا ، وقدمت
فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد اخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب
، فبلغ ذلك ابي فما زال يضربه حتى اغمي عليه . وكان معي يوماً قطعة بخمسة قروش
فحاولت ان اصرفها من بائع سجائر فشاهدني اخي الكبير فاخذ يسالني ويحقق معي تحقيق
"وكيل النيابة" مع المتهم ، خوفاً من ان اكون اشتري سجائر لادخنها اذ
ليس احد في البيت يحدث نفسه ان يشرب سجارة.
وبعد ، فما اكثر ما
فعل الزمان! لقد عشت حتى رايت سلطة الاباء تنهار ، وتحل محلها سلطة الامهات
والابناء والبنات واصبح البيت برلماناً صغيراً ، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل
فلا تؤخذ فيه الاصوات ولا تتحكم فيه الاغلبية ، ولكن يتبادل فيه الاستبداد.
فاحياناً تستبد الام، واحياناً تستبد البنت او الابن وقلماً يستبد الاب. وكانت
ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها ايدي الصرافين ، وكثرت مطالب الحياة لكل
فرد وتنوعت، ولم تجد راياً واحداً يعدل بينها ، ويوزن بين قيمتها ، فتصادمت
وتحاربت وتخاصمت ، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته .
وغزت المدنية المادية
البيت فنور كهربائي وراديو وتلفزيون ، وادوات للتسخين وادوات للتبريد ، واشكال
والوان من الاثاث . ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها ؟
وسفرت المرأة وكانت
أمي واخراتي محجبات - لا يرين الناس ولا يراهن الناس الا من وراء حجاب- وهكذا من
امورالانقلاب الخطير ، ولو بعث جدي من سمخراط وراى ما كان عليه اهل زمنه وما نحن
عليه اليوم لجن جنونه ، ولكن خفف من وقعها علينا انها تاتي تدريجياً ، ونالفها
تدريجياً ، ويفتر عجبنا منها واعجابنا بها على مر الزمان ، ويتحول شيئاً فشيئاً من
باب الغريب الى باب المالوف.
- 17-
..احسست حاجتي
الشديدة الى لغة اجنبية ، فدروسي في الاخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن
الانجليزية ، وانا شيق الى ان اتوسع فيها ، ومن حولي من الاساتذة العصريين
يستفيدون اكبر فائدة من مادتهم التي يحضرونها من اللغة الانجليزية او الفرنسية ،
وقد اخفقت في تعلم الفرنسية ، فلاجرب حظي في الانجليزية.
ويوماً قابلت صديقي
احمد بك امين ، وجلسنا في مقهى ، وذهب الحديث فنوناً الى ان وجدته يقول انه عثر
على كتاب انجليزي قيم لمستشرق امريكي اسمه مكدونالد ، وانه قسم كتابه الى ثلاثة
اقسام : قسم يتعلق بنظام الحكم في الاسلام ، وقسم في الفقه الاسلامي ، وقسم في
المذاهب والعقائد الاسلامية. واخذ يطري الكتاب ويحكي بعض ارائه ، فاستفزني الموضوع
وقلت : هل تستطيع الآن ان تذهب معي الى مدرسة (برليتز) لارتب دروساً لي في
الانجليزية؟ فقبل ، واقسمت ان اتعلم وان اقرأ هذا الكتاب في لغته . وذهبنا الى
المدرسة ورتبنا دروساً ثلاثة في الاسبوع بمائة وخمسين قرشاً كل شهر. واشتريت
الكتاب الاول ، وتولى تعليمي سيدة انجليزية يظهر انها فقيرة الحال، تحسن
الانجليزية لانها انجليية، وان لم تكن مثقفة الا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك
مجهوداً شاقاً ، اقرأ في البيت وأحفظ في الطريق واذاكر اذا كنت مراقباً في
الامتحان او مشرفاً على حصة العاب رياضية ، والدرسة بهذا الشكل عسيرة اذ لم اكن في
فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم اكن في بيئة تعود سمعي اللغة ، ويقول لي
الشيخ الخضري ، لقد جرب هذ التجربة مئات من طلبة دار العلوم ، فساروا خطوات ثم
وقفوا ، ولم ينجح منهم الا من كان بعثة الى انجلترا ، فقلت له سأجرب كما جربوا
ولكن سانجح اذا فشلوا .
وبعد شهرين في هذا
الجهد احضرت كتيباً صغيراً عنوانه "الاسلام Islam" للسيد امير علي ، وقلت ان
موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم . ولكني قرأت الصفحة الاولى فلم
افهم ، فظللت اصرف اكثر من ثلاث ساعات في الصفحة ، اكشف في المعجم العربي عن كل
كلمة حتى "من" و"عن" وانا جاد صابر. ومكثت على ذلك سنة، اتممت
فيها الجزء الاول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية .
وفيه بعض فصول في الادب والانجليزي وتاريخه. فاحسست ان هذه المدرسة غير ملمة
بتاريخ الادب وانها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب ، فبحثت عن مدرس آخر او مدرسة اخرى
.
ووفقت الى سيدة
انجليزية كان لها اثر عظيم في عقلي ونفسي .
مس بور (Power) سيدة في نحو الخامسة
والخمسين من عمرها ، ضخمة الجسم مستديرة الوجه ، يوحي منظرها بالقوة والسيطرة،
بسيطة في ملبسها وزينتها . مثقفة ثقافة واسعة ، تجيد الانجليزية والفرنسية
والالمانية ، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها ، عرفت الدنيا من
الكتب ومن الواقع ، اقامت في فرنسا سنين وفي المانيا سنين وفي امريكا سنين فكملت
تجاربها واتسع افقها ، حضرت الى مصر ووافقها جوها فاقامت فيها ولكن ليس لها من المال
ما يكفيها للاقامة طويلاً، فهي تستاجر بيتاً خالياً في ميدان الازهار وتفرش حجراته
، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيهاً في الشهر تكون اساس عيشها. ثم
هي رسامة فنانة ، تاخذ ادواتها الى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الاهرام
والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل او نحو ذلك من مناظر طبيعية ترسمها بالزيت
وتتانق فيها ، وتقضي في رسمها الايام والاشهر وتبيعها بثمن كبير ، ثم هي تدرس
الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة ، ثم هي تقبل ان تدرس لي درساً في اللغة
الانجليزية بجنيهين كل شهر ، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة ام قوية
لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.
ابتدات ادرس معها
الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز ، اقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما اخطات
، ثم اضع الكتاب واحدثها وتحدثني في أي موضوع اخر يعرض لنا. ولا ادري لماذا لا
يعجبها مني ان اضع العمامة بجانبي اذا اشتد الحر ـ بل تلزمني دائماً بوضعها فوق
راسي . ونستمر على ذلك نحو الساعتين اتكلم كثيراً وتتكلم قليلاً ، وتنفق اكثر ما
تاخذه مني في اشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض اصحابها الانجليز من رجال ونساء
الى الشاي ، وتدعوني معهم لاتحدث اليهم ويتحدثوا الى ، فاسمع لهجانهم ويتعود سمعي
نطقهم واصغي الى آرائهم وافكارهم واقف على تقاليدهم ، ومرة ترسلني الى سيدة
انجليزية صديقة لها اكبر منها سناً قد عدا عليها المرض فالزمها سريرها لاتحدث
اليها . تقصد بذلك ان هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها ، وانا
اجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام ، فاستمع الى قولها الانجليزي الكثير رغم
انفي.
وتوثقت الصلة بيننا
فكانني كنت من اسرتها ، وهي لا تعني بي من ناحية اللغة الانجليزية وآدابها فحسب ،
بل هي تشرف على سلوكي واخلاقي . لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على اصلاحهما ، ووضعت
لي مبدأين تكررهما على في كل مناسبة.
راتني شاباً في
السابعة والعشرين اتحرك حركة الشيوخ ، وامشي في جلال ووقار ، واتزمت في حياتي ،
فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئاً حتى من اللهو البريء واصرف حياتي بين دروس احضرها
ودروس القيها ، ولغة اتعلمها ، وراتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن
عميق ، وراتني لا ابتهج بالحياة ولا يتفتح صدري للسرور ، فرضعت لي مبدأ هو :
"تذكر انك شاب" تقوله في كل مناسبة وتذكرني به من حين الى حين.
والثاني انها رات لي
عيناً مغمضة لا تلتفتت الى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال
انسجام وترتيب ، فوضعت لي المبدأ الآخر : "يجب ان يكون لك عين فنية"
فكنت اذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس واتكلم في موضوعه صاحت في :
"الم تر في الحجرة ازهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير اعجابك فتتحدث عنها؟"
وكانت مغرمة بالازهار تعني بشرائها وتنسيقها كل حين ، وتفرقها في اركان الحجرة وفي
وسطها ، ويؤلمها اشد الالم ان ادخل على هذه الازهار فلا احييها ولا ابدي اعجابي
بها واعجابي بفنها في تصفيفها .
ويوماً آخر ادخل
الحجرة فاتذكر الدرس الذي اخذته في غزل الزهور فاحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل
ما احضرت من ازهار، فتلتفت الي وتقول: اليست لك عين فنية؟" اعجب من هذا
الاستنكار، وقد حييت الازهار، فتقول: الم تلحظ شيئاً؟ "فاجيل عيني في الحجرة
فلا ارى شيئاً جديداً غير الزهر الجديد، فتقول: "الم تلحظ الحجرة وقد غير وضع
اثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا ، وكانت الاريكة هنا فصارت
هاهنا؟" وتقول : "قد سئمت الوضع
القديم وتعبت عيني من رؤيته ، فغيرت وضعه لتستريح عيني" ، وهكذا.
لازمتها اربع سنوات ،
استفدت فيها كثيراً من عقلها وفنها ولكنني لا اظن انني استفدت من تكرارها على سمعي
ان اتذكر دائماً اني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث
، واخترت ان اقرأ معها كتباً اخرى ، في الاخلاق احياناً وفي الاجتماع احياناً، وفي
آخر المرحلة قرأت معها فصولاً كثيرة من جمهورية افلاطون بالانجليزية ، فكان هذا
الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها، فكنت اقرأ الفصل فتشرحه لي ، وتبين ما طرأ
على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه الى اليوم ، وكيف طبق هذا المبدأ في
المدنية الحديثة في الامم المختلفة ، وهكذا.
ولا ادري ما الذي
انتابها فقد رايتها تكثر من القراءة في كتب الارواح ، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر
أي انها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها ، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز
روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، او تجرب تجربة اخرى ان ترسل من
روحها شارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه ان يحضر او لا يحضر ، وان يعد كذا او لا يعد ،
وهكذا، وقد نجحت في بعض الاحوال دون بعض فلم تشأ ان تعتقد ان هذا مصادفة، ولكنها
اعتقدت ان ما نجحت فيه فانما نجحت لان الامر قد استوفى شروطه، ومالم نتجح فيه لم
تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وامعنت في تركيز روحها، كل ذلك
وانا انصحها الا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لانها تامل ان تصل من ذلك الى
نجاح باهر.
وذهبت اليها يوماً
فرايتها مصفرة الوجه مضطربة الاعصاب خفاقة العينين، فسالتها عما بها، فاخبرتني
انها ذهبت اليوم صباحاً الى كوبري قصر التيل وهمت ان ترمي نفسها في النيل، ثم
رايتها نذكر لي انها اخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة اخرى،
فخرجت من عندها اسفاً باكياً، واتصلت بطبيب للامراض العقلية فحضر ورآها، واخبرني
انه لابد من ارسالها فوراً الى مستشفى للمجاذيب، وكذلك كان. وكنت اعودها من حين
الى حين، فاذا جلست اليها تحدثت كعادتها حديثاً هادئاً معقولاً، وسالتها مرة: ماذا
بها؟ فقالت لا شيء بي الا انني فقدت الارادة فاذا اطلق سراحي الان لا دري اين
اتجه. ثم تولت امرها القنصلية الانجليزية فاسفرتها الى بلدها. واخيراً -وبعد نحو
سنتين-جائني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع ايطالي ففضضته فاذا هو من مس
بور تخبرني انها شفيت من مرضها، وانها الان في روما، تتمتع بجمال مناظرها وروعة
كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها ، ثم انقطعت عني الى اليوم اخبارها رحمها
الله.
وفي هذه الفترة التي
كنت ادرس فيها مع "مس بور" جائني صديق وقال انه يعرف اسرة انجليزية
تتكون من زوج وزوجة يريدان ان يتعلما العربية وانا اعلم الزوج فهل لك ان تعلم الزوجة؟
قلت لا اعلمها بمال ولكن اتبادل معها ، فاعلمها العربية وتعلمني الانجليزية ، وعرض
عليها ذلك فرضيت.
سيدة انجليزية في
ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة
والثقة، تعيش مع زوجها الانجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة
ارستقراطية فخمة. مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم ، يستمتعان بالزواج
الجديد السعيد. كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الاسبوع، ساعة تعلمني
الانجليزية وساعة اعلمها العربية واختارت لي ان اقرا معها كتاب "قصص شيكسبير
للامب"
وكنت اترقب موعد هذا
الدرس بشوق ولهفة ، وكانت هذه السيدة تغذي عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما
كانت مس بور تغذي عقلي بثقافتها واطلاعها وتجاربها.
كنت احدثها يوماً ،
وقد قامت الحرب العالمية الاولى فزل لساني ونقدت الانجليز نقداً خفيفاً امامها،
فما كان منها الا ان دمعت عينها وقالت في رقة : "اتعيب قومي وامتي!"
فخجلت خجلاً شديداً وقدرت وطنيتها التي يجرحها النسيم ، ولم اعد بعد لمثلها،
واستمررت على ذلك اكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا باس به من
العربية. وكان بصعب عليها النطق بالعين ، فكانت تقول: ان عينكم تؤلمني، وكنت اقول
في نفسي مثل قولها . وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية-نقد لا ندركه نحن
لانها لغتنا. نشانا فيها ورضعناها مع لبن امنا والفناها منذ صغرنا . قالت لي مرة:
ان اللغة العربية غير منطقية، الا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر
وهو لطيف وديع، فاولى ان نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا . وقالت
مرة الا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب ، وتقول الف كتاب، وكان الاولى ما دمت تقول
ثلاثة كتب ان تقول الف كتب . وهكذا من طرائفها الظريفة . واشتدت الحرب فجند زوجها
، وانقطع عني خبره وخبرها.
ما ذا كنت اقول لو لم
اجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فاصبحت ذا عينين، وكنت اعيش في الماضي
والحاضر، وكنت اكل صنفاً واحداً من مائدة واحدة فصرت اكل من اصناف متعددة على
موائد مختلفة، وكنت ارى الاشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها الوان
اخرى وطعوم اخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد. لو لم اجتز هذه المرحلة
ثم كنت اديباً لكنت اديباً رجعياً، يعني بتزويق اللفط لا جودة المعنى، ويعتمد على
ادب الاقدمين دون ادب المحدثين ، ويلتفت في تفكيره الى الاولين دون الآخرين ، ولو
كنت مؤلفاً لكنت جماعاً اجمع مفترقاً او افرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد . فانا
مدين في انتاجي الضعيف في الترجمة والتاليف والكتابة الى هذه المرحلة بعد المراحل
الاولى ، وهذه الزهرة الجديدة الفت باقة مع الازهار القديمة.
18
ثم ان لهذه المرحلة
تكملة . فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار
الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق، كان اكثرهم مرشحاً للبعثة الى انجلترا ثم
منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الادبي[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][1]
، شاءت الظروف السعيدة ان اتعرف بهم وان اصادقهم ، رايتهم مثقفين من غير جنس
ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة ، وثقافتي شرعية كثيراً وعصرية قليلاً ، منهم الذي بلغ
درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والادب الانجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة
في الرياضة والطبيعة والكيمياء ، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة
اكثر مما اعرف ، بحكم ثقافتهم وثقافتي. وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين
صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا اذا حضرنا ليعرض علينا رايه في كلمة اكتشف انها غير
صحيحة لانها لم ترد في معاجم اللغة ، او ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الاعجاب
بها ولو من باب المجاملة . على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر
بعض الايام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الالوان .
هذا مغرم بالقصص
الانجليزية يقرأ منها الكثير ، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما
اختار ، وتحمس لما يقول وما يعرض ، ولا يرضيه الا ان يحمس السمعون حماسته ويبتهجوا
بما يقول ابتهاجه. وكان يقول ان الاستماع للحديث فن كفن الالقاء ، من الناس من
يجيده ومنهم من لا يجيده، وانما يجيده السامع اذا تجاوب مع القائل في شعوره
وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك وبيكي للحديث الباكي وتظهر على اسارير
وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في اني اجيد الاستماع فيتحدث الى باكثر مما
يتحدث به مع غيري . وهذا الاخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويُفتن باسلوب
الاوربيين في كتابته وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات الى كلياتها
وحريتهم في تقدير الابطال والاعتداد بشخصياتهم . فقد يهدم بعضهم بطلاً اجمع الناس
على بطولته ، اويشيد بذكر مغمور اجمع الناس على خموله ، وينقد كتابة التاريخ عند
العرب . فقد احسنوا في رواية الاحداث ولم يحسنوا فلسفتها الا ماكان من ابن خلدون
فقد احسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الاحداث ، ثم هو يحاول ان يطبق هذا
المذهب فيعرض علينا من بحثه في عمر وعلي -مثلاً - على نمط جديد فيه التقدير وفيه
النقد.
وهذا عالم تخصص في
الكيمياء وجعل مسلاته الادب . فهو يقرأ في ديوان ابي الطيب وابي فراس ويتخير من
شعرهما ويحفظه وينشده ، وتلتهب عاطفته فيحاول ان يقول شعراً بعضه لا باس به . وهذا
عالم آخر كيمياوي ايضاً جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه .
اثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم ، وملا المسجد به وبهم ، قد حفظ
القرآن واطال قرءته وبذل جهداً في فهمه ، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم
ما يفهمه من نظريات الطبيعين والكيمياويين وما يقتبسه من اقوال المتدينين من
العلماء الاوروبيين . يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين ، ويعز عليه ان يسمع
الحاداً او كلمة يشتم منها الحاد بل لا يسمح ان ينقد احد امراً من امور الدين ،
ولو كان في التفاصيل . وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه ، قوي
الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر اذا قال ، جزل الاسلوب اذا كتب ، يدرس الكيمياء
والطبيعة فتكون ديناً ، يتحرج صحبه ان يذكروا امامه شيئاً يمس شعوره الديني
وعاطفته المسلمة ، ويهابونه في طربوشه اكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة
ولكنه لا يقل ثقافة ادبية عن المختصين في الثقافة الادبية يقرأ في الاغاني والعقد
الفريد كما اقرا ويتذوقها وينقدها ، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة
الانجليزية في الاخلاق والاجتماع وعلم النفس ، ويتاثر بما يقرأ الىحد كبير ،
ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له ، وياتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ ، وله اسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما
يسمع ، تطبيقاً لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته ، ولابأس ان يغلو في الهدم ، ولا
بأس ان يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالامس ، وهذا وهذا مما يطول شرحه.
كل اولئك كانوا مدرسة
لطيفة لي ، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان
والمكان ، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس ، مدرسة فيها الجد والفكاهة ،
والعلم والادب ، والدين والشعر، والتقريظ والنقد ، مدرسة يكون فيها التلاميذ
استاذاً والاستاذ تلميذاً ، وان شئت فقل ان كل من فيها استاذ تلميذ ، مدرسة فيها
حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء ، تقارب فيها سن الاساتذة
والتلاميذ فتجانست مشاعرهم ، وتشابهت آمالهم ومطامحهم ، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم .
وكان لهذه المدرسة
التفاتة لطيفة الى تقويم البدن كتقويم النفس ، والعناية به كالعناية بالعقل . فما
بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز
نتحدث ، وليلنا على الكتب نحضر ! اين الهواء الطلق ؟ اين جمال الطبيعة؟ اين
الرياضة البدنية؟ اين الرحلات؟ ان كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز ،
وتخدم العقل كما تخدم الجسم ، وتغذي الروح كما تغذي البدن .
اذن - فلنشترك في ناد
من نوادي الالعاب الرياضية ، ولننظم رحلات اسبوعية ، ولاحقق انا بعض ما كانت تقوله
لي المدرسة الانجليزية "تذكر انك شاب".
وذهبنا الى نادي
الالعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه ، وكانت عمتي اول عمامة اشتركت في النادي
، وربما كانت آخرها ايضاً ، واخذت خزانة فيه ككل عضو ، اضع فيها "الفانيلا
والشورت والجزمة الكاوتش" ، فاذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست
الشورت وما اليه وتسابقت في العدو مع العدائين ، ولعبت كرة القدم مع اللاعبين ،
حتى اذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك . وقد كنت اول الامر
الهث اذا جريت ، واخفق اذا لعبت ، ثم استقام امري ، وان لم ابلغ في خفة الحركة
مبلغ صحبي ، لاني احمل من اوزار تربيتي الاولى ما لا يحملون . فاذا فرغنا من ذلك
كله ذهبنا الى خزائننا وخلعت "الشورت" ولبست الجبة والقفطان والعمامة
وخرجت من النادي شيخاً وقوراً .
ويوم الجمعة احياناً
كنا نخرج الى رحلة في جبل المقطم في الشتاء ، فيوماً الى الغابة المتحجرة ، ويوماً
الى وادي دجلة او وادي حوف في حلوان ، ويوماً الى العين الساخنة وهكذا. وكانت
رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم ، وكم قلت له : "رفقاً
بالقوارير" وهو لا يسمع ! فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس
الى غروبها ، نحمل معنا غذائنا وشربنا على ظهورنا ونسير سيراً حثيثاُ لا نستريح
الا ساعة ناخذ فيها غذاءنا ثم نسير سيرنا واعود الى البيت مضنى متعباً ، ثم انام
ملء جفوني ، واعرج بعدها في مشيي ثلاثة ايام او اربعة ، ولكني احس صفاء نفسي وصفاء
راسي . وكنت في هذه الرحلات كشاني في الالعاب ، اخيب عضواً في الاولى وابطا عضو في
الثانية : لست انسى يوماً عصيباً ذهبت فيه مع صحبي الى وادي حوف فلما بدأنا في
العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا احضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى ،
فلم يفد ذلك الا قليلاً، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى ، ودميت اصابعي ، وابطا
القوم في سيرهم ورثوا لحالي ، واخيراً جداً عثرت على حمار قبل مدخل حلوان ، وطلبت
من صاحبه ان يحملني الى المحطة باي اجر شاء ، ودخلت حلوان على حمار وحولي
الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي .
وتحررت بعض الشيء ،
فكنا نذهب احياناً الى صالة "منيرة المهدية" لسماع غنائها ومشاهدة
رواياتها ، وكنت اتاثر من بعض نغماتها اثراً يرن في اذني طول الاسبوع .
فاذا احب بعضهم ان
يذهبوا الى اكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم الا يخبروني ، لاني لا اصلح لمثل موقفهم
.
وانضم الى جماعتنا
ثلاثة من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية ، ودب في
الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متاخر في جميع مرافقه ، ونحن
الشباب يجب ان نفكر ونعمل في تقدمه واعلاء شانه رغم الاحتلال وسيطرته . فلنؤلف
لجاناً لدراسة مصر من نواحيها الختلفة : لجنة للناحية الاقتصادية ، واخرى للناحية
السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف
العلاج ، وفعلت اللجان ذلك وبدات الجماعة تعمل ، لكن عصفت الرياح باللجان كلها،
وبقيت - بحمد الله - "لجنة لتاليف والترجمة والنشر"- التي سن قانونها
احد الاعضاء القانونيين ، وقُريء على الاعضاء مجتمعين ، وعُدل ونُقح ، والتزم كل
عضو ان يدفع عشرة قروش في كل شهر ، وان يجتمع مجلس ادارتها في بيت عضو من اعضائها،
وبدأ بعض الاعضاء العلميين يؤلف كتباً في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية ، يحضر
كل باباً ويقرؤه على الاخرين فينقحونه ويهذبونه ، فاذا فرغوا منه قدموه للطبع.
فاذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش اقرض اللجنة بعض الاغنياء من الاعضاء ليتم طبع
الكتاب ، فكان هذا اول حجر في بناء اللجنة .
وقد تكونت اللجنة على
هذا المنوال سنة 1914 ، ونحن الان في سنة 1953 فيكون قد مضى عليها اكثر من ست
وثلاثين سنة ، وقد طبعت من الكتب اكثر من مائتي كتاب ، وكانت لا تقرركتاباً الا
اذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه راياً بالصلاحية او عدمها ، او
حاجته الى التعديل . ولبثت طول هذه المدة رئيساً للجنة يعاد انتخابي فيها رئيساً
لها كل عام . وازداد عدد اعضائها الى حتى شبهها الناس بالماسونية . وكل عضو فيها
يشجع اللجنة بما يقدر عليه ، واسست لها مطبعة خاصة ، كما اسست مجلة اسمها الثقافة
تنشر فيها الاراء على مبادئها واستمرت نحو
اربعة عشر عاماً ثم اوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر . وقد حزن
الاعضاء والقارئون على وقوقها ، ولكن لماذا يجدي الحزن العاطفي امام الخسائر
الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من
هذه العشرات من القروش ومن الارباح من الكتب حتى بلغت اكثر من ستين الفاً من
الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءاً كبيراً من حياتي . فكنت اذهب اليها كل يوم ادير
شؤونها واطلع على مشاكلها : واقرا بريدها واؤشر على ما يلزم في هذا البريد . وقد
كانت اللجنة تسكن اولاً في بيت عضو من اعضائها، ثم استاجرت مكاناً متواضعاً في حي
بلدي . ثم اشترت بيتاً في جي ارستقراطي بنحو 20 الف جنيه . واخيراً وبعد ان وقفت
على رجليها منحتها الحكومة مبلغاً من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة ، افردناه في
دفاتر خاصة وطبعنا به كتباً خاصة ، نبيعها بتكاليفها تقريباً ، وتحاسبنا الوزارة
على هذا البند وحده. وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي ، اسال عنها ، واحاسب
نفسي عنها كما احاسبها على اولادي ، واستعين باعضاء مجلس ادارتها الكرام على تنظيم
شؤونها ، وترتيب امورها ، واحمد الله على التوفيق فيها .
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الاصحاب الذين ذكرت بعض
صفاتهم ، وحظيت بصداقتهم. وبهؤلاء الصحاب احسست اني اقرب من عقليتهم ومزاجهم
وثقافتهم شيئاً فشيئاً ،وابتعد عن عقلية زملائي الاقدمين ومزاجهم شيئاً فشيئاً ،
ورايتني اكون لنفسي نواة من الكتب الانجليزية بجانب الكتب العربية ، واحضر دروسي
منها في الاخلاق والمنطق ، واملا الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، واذا العين تتفتح
والافق يتسع.
-20-
.....وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والازواج والزوجات
وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها او الاستغناء عنها والزواج بالاجنبيات والمصريات
، ورويت الاحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي
شقي بزواجه، وفلان الذي اضرب عن الزواج واستمتع بالجياة في اولها وشقي في اخرها
وهكذا. وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة العشرين . فصممت ان
ابت في الموضوع هل اتزوج او لا اتزوج ، واخيراً وبعد تردد طويل قررت ان اتزوج ،
ولكن نشات العقدة الثانية : من اتزوج ؟ وكان السفور في هذا الزمن في اول امره لم
يجرؤ عليه الا عدد محدود من المثقفات. فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة ،
يسمع الشاب من صديقه او احد اقاربه ان لفلان بنتاً في سن الزواج ، وقد يبلغه هذا
الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى الخاطبة وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف
اخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج او من الشباب الذين يريدون الزواج ،
وتكون واسطة بين اهل الزوج واهل الزوجة في تعريف هؤلاء باولئك ، فيتقدم احد اقارب
الشاب الى ابي الشابة او ولي امرها يعرض عليه الرغبة فاذا قبل ارسل الشاب امه وبعض
قريباته من النساء لرؤية الفتاة ، فاذا وصفوها وصفاً اقتنع به تقدم للزواج من غير
ان ينظرها ويعرف شكلها وطباعها واخلاقها .وانما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد
الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي . وكنت شاباً لا باس بشكله ولا باس
باسرته ، فانا وبيتي نعد من الاوساط وانا احمل شهادة عالية ، ومرتبي نحو ثلاثة عشر
جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر ، وكنت اتلمس الزواج من امثالي في
الاوساط، لا اطلب الغنى ولا اطلب الجاه . ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في
طريقي. فكم تقدمت الى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي ، ولكن
لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين ، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت
وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة ،
والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك ، فكم قيل لي ان
ليس عندهم مكان لعمامة ، ورضي بي قوم اولا واحبوا ان يروني ، فاحببت ان اريهم اني
متمدن ، وذهبت اليهم احمل كتاباً انجليزياً وجلست اليهم وجلسوا الي وتحدثت اليهم
حديثاً عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات انجليزية فاستغربوا لذلك ،
وفهمت انهم اعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني ان الفتاة اطلت على من الشباك وانا
خارج ورات العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باتاً ان تتزوجني رغم الحاح
اهلها. وشاء القدر ان تتزوج هذه الفتاة فيما بلغني شاباً انيقاً كاتباً في وزارة
ولكنه سكير معربد اذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها ، وما زال يسوء حالها
حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت الى وانا قاض في محكمة الازبكية تطلب من زوجها
النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج . فكلما دلني صديق على فتاة فاما ان اجد
مانعاً منها او تجد مانعاً مني. فمن ارضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا ارضاه. واخيراً
دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته . فارسلت امي واختى وزوجة
الاستاذ لرؤية الفتاة فراينها ووافقن عليها ، وجعلت اسال امي واختى اسئلة عن شكلها
وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستهما في اخلاقها ونحو ذلك ، واستمع لاجابات لا
تصور شكلا ولا توضح حقيقة ، واجلس الى نفسي واعمل خيالي فيما سمعت ، فاصوغ من ذلك
شكلاً. وقد اجلس معهما مرة اخرى اسمع منها جديثاً آخر ووصفاً آخر، فاتخيل من ذلك
صورة اخرى وهكذا. واخيراً سلمت الامر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم
الخيال . وتم عقد الزواج يوم 3 ابريل سنة 1916 ، وقد اخذت يوم العقد مائة جنيه
انجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة ، وانتظرت نحو اربعة اشهر حتى
يتم اهل الزوجة الجهاز .
وكانت هذه الاشهر الاربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والاحلام اللذيذة
، بناء القصور على الاراء الفلسفية او النظريات المدونة في الكتب . فانا ازور
المكتبة الانجليزية وابحث عما كتب في الزواج ، فاعثر - مثلا - على سلسلة من الكتب
احدها فيما ينبغي للزوج ان يعلم ، وثانيها فيما ينبغي للزوجة ان تعلم وهكذا . ثم
اجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الاسرة ، وثالثاً في تربية الطفل فأقرؤها
وافكر فيها استخلص منها ما يجب ان اعمل لاسعد وعلى أي الاسس ابني اسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج الى مصور ماهر صورني صورة تذكارية احتفظت بها ،
ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الاتية: "هذه صورتي اخذت يوم الجمعة 7
ابريل سنة 1916 وسني تسع وعشرون سنة وستة اشهر ، عقب عقد زواجي باربعة ايام ، وقد
اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة ، فوضع المصور امامي كتباً من عنده وامسكت بيدي
اليسرى كتاب "مباديء الفلسفة" وكنت قد عربت اكثره واوشكت على الانتهاء .
وقد لاحظت ان اصور صورة في غاية البساطة فلم اتعمل شيئاً الا اختيار الثوب الذي
اخترته يوم عقد الزواج . وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما اشعر به من اني قادم
على حياة جديدة ومرحلة جديدة ، فقد انهيت حياة الوحدة وساقدم على حياة الاسرة ،
وانا مقتناع ان هذه البيئة الجديدة سيكون لها اثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي. . ومن
البواعث على هذا التصوير ايضاً علمي ان السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا
والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية ، على اني - والاسف يملأ فؤادي-لم
انتفع بزمن الصبا والفتوة كما كان يجب . فلم يجد المرح والنشاط واللهو-ولو كان
بريئاً- ولا الحب الى قلبي منفذاً، بل تشايحت منذ الصبا - وهذا ولا شك اثر التربية
المنزلية . فقد كانت تربية اساسها التخويف والارهاب ، ولم يكن في بيتي أي مظهر من
مظاهر البهجة والسرور. واني في هذه السنة احس شيئاً من النشاط على اثر دروسي
الانجليزية مع مدرسة كانت تص
7 195
يقول طه حسين:
"لقد اهدى احمد امين الى العالم الحديث بتاليف فجر الاسلام وضحاه وظهره كنزاً
من اقوم
الكنور واعظمها حظاً من الغنى
واقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والاصراح." في حياتي يسعى احمد
امين لتقديم صورة صادقة عن نموه منذ مراحل الطفولة الباكرة حتى اواخر عمره ،
موضحاً كيفية تكون الشخصية التي قدمت للعالم العربي فجر الاسلام . فقد كان
من المعتقدين بدور البيئة في خلق الشخصية ، اذ يقول في بداية سيرته : "كل
انسان - الى حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه وما اكتسبه من بيئته التي
احاطت به ." وهو يذكر في هذا السياق عوامل عدة منها تاثير اسرته التي ترعرع
في ظلالها عليه ، والحارة التي ترعرع فيها ، الكتاب والازهر . ثم يصف عمله الجامعي
كاستاذاً بكلية الاداب وعميداً لها.
في الصفحات التالية ، يصف احمد امين
تجاربه الاولى مع اسرته ، ويوضح كيف اثرت في شخصيته لاحقاً. فالقسوة في معاملته
كطفل تدفعه للجدية، ولعدم القدرة على مشاركة الاخرين الافراح، بل انه يبات جدياً
اقرب للكابة في طبعه طوال العمر. هو يصف ايضاً مساعيه لتوسيع حدود تعليمه التراثي
في الازهر عن طريق تعلم اللغة الانجليزية،وتاثير القراءة باكثر من لغة على اسلوبه
في التفكير. بل انه يقدم رؤية خاصة للغة العربية وكيفية استخدام المحدثين لها ، اذ
يدعوا للغة بسيطة يقدر القاريء العادي على فهمها. سيجد القاريء هنا ايضاً وصفاً
لزواج احمد امين وتحليلاً لمزايا وشرور العلاقة الزوجية يتميز بصراحة يندر ان نعثر
عليها في ادب المذكرات العربي المعاصر .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وتموت الحشرات والهوام ، ولكنها تتحلل في تراب
الارض فتغذي النبات والاشجار . قد يتحول النبات والاشجار الى فحم ، ويتحول الفحم
الى نار، وتتحول النار الى غاز ، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم . حتى اشعة الشمس التي
تكون الغابات وتنمي الاشجار تُختزن في
الظلام، فاذا سُلطت عليها النار تحولت الى ضوء وحرارة وعادت الى سيرتها
الاولى.
وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والافكار
والاحيلة ، تبقى ابداً ، وتعمل عملها ابداً. فكل ما يلقاه الانسان من يوم ولادته ،
وكل ما يلقاه اثناء حياته ، يستقر في قرارة نفسه ، ويسكن في اعماق حسه، سواء في
ذلك ما وعى وما لم يعي، وما ذكر وما نسى ، وما لذ وما آلم. فنبحة الكلب يسمعها ،
وشعلة النار يراها ، وزجرة الاب او الام يتلقاها ، واحداث السرور والالم تتعاقب
عليه. كل ذلك يتراكم ويتجمع ، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا
التفاعل اساساً لكل ما يصدر عن الانسان من اعمال نبيلة وخسيسة-وكل ذلك ايضاً هو
السبب في ان يصير الانسان عظيماً او حقيراً ، قيماً او تافهاً. فكل ما لقينا من
احداث في الحياة ، وكل خبرتنا وتجاربنا ، وكل ما تلقته حواسنا او دار في خلدنا هو العامل
الاكبر في تكوين شخصياتنا - فان رايت مكتئباً بالحياة ساخطاً عليها متبرماً بها ،
او مبتهجاً بالحياة راضياً عنها متفتحاً قلبه لها ، او رايت شجاعاً مغامراً كبير
القلب واسع النفس ، او
ما انا الا نتيجة حتمية لكل ما مر علي وعلى ابائي من أحداث. فالمادة لا
تنعدم وكذلك المعاني. قد يموت الطير
جباناً ذليلاً خاملاً
وضيعاً ضيق النفس ، او نحو ذلك ، فابحث عن سلسلة حياته من يوم ان تكون في ظهور
ابائه - بل قد تحدث الحادثة لا يابه الانسان بها وتمر امام عينيه مر البرق، او
يسمع الكلمة العابرة لا يقف عندها طويلاً ، او يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة ،
فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبيء في عالمه اللاشعوري ، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات
لسبب من الاسباب فتكون باعثاً على عمل كبير او مصدراً لعمل خطير . وكل انسان - الى
حد كبير - نتيجة لجميع ما ورثه عن ابائه ، وما اكتسبه من بيئته التي احاطت به .
ولو ورث أي انسان ما
ورثت ، وعاش في بيئة كالتي عشت، لكان اياي او ما يقرب مني جداً.
لقد عمل في تكويني
الى حد كبير ما ورثت عن آبائي ، والحياة الاقتصادية التي تسود بيتنا ، والدين الذي
يسيطر علينا ، واللغة التي نتكلم بها ، وادبنا الشعبي الذي كان يروي لنا ونوع
التربية الذي كان مرسوماً في ذهن ابوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو
ذلك . فانا لم اصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سنه من قوانين الوراثة
والبيئة .
عجيب هذا العالم ، ان
نظرت اليه من زاوية رايته كلاً متشابهاً ، بتجانس في تكوين ذراته ، وفي بناء
اجزائه ، وفي خضوعه لقوانين واحدة ، وان نظرت اليه من زاوية اخرى رايت كل جزيئة
منه تتفرد عن غيرها بمميزات خاصة بها، لا يشاركها فيها غيرها . حتى شجرة الورد
نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها . فمن الناحية الاولى تستطيع ان تقول :
ما اشبه الانسان بالانسان. ومن الناحية الثانية تقول: ما اوسع الفرق بين الانسان
والانسان.
وعلى هذه النظرة الثانية فانا عالم وحدي ،
كما ان كل انسان عالم وحده . تقع الاحداث على اعصابي ، فانفعل لها انفعالا خاصاً
بها، واقومها تقويماً يختلف - قليلاً او كثيراً - عن تقويم كل مخلوق آخر غيري.
فالحادثة الواحدة يبكي منها انسان ، ويضحك منها آخر، ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث
، كأوتار العود الواحد ، يوقع عليها كل فنان توقيعاً منفرداً متميزاً لا يساويه
فيه أي فنان آخر.
فانا اروي من الاحداث ما تاثرت به نفسي ،
واحكيها كما رات عيني ، واترجمها بمقدار ما انفعل بها شعوري وفكري.
-3-
كانت اول مدرسة تعلمت
فيها اهم دروسي في الحياة بيتي. وقد بني أبي - بعد ان تحسنت حاله -بيتاً مستقلاً
في الحارة التي يسكنها هو وأخوه ، يتكون من دورين غير الارضي. ففي الدار الارضي
منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها.
وطابع البيت كان
البساطة والنظافة . فاثاث اكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة ، واذا كانت حجرة نوم
رأيت في ركن من اركانها حشية ولحافاً ومخدة ، تطوي في الصباح وتبسط في المساء .
فلم نكن نستخدم الاسرة . وادوات المطبخ في غاية السذاجة . وهكذا ، ولو اردنا ان
ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الاثاث. اما اكثر ما في البيت واثمنه وما يشغل اكبر
حيز فيه فالكتب - المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب ، وحجرة ابي مملوءة
بالكتب وحجرة في الدور الاول ملئت كذلك بالكتب .
وكان ابي مولعاً
بالكتب في مختلف العلوم ، في الفقه ... والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والادب
والنحو والصرف والبلاغة ، واذا كان الكتاب مطبوعاً طبعتين : طبعة اميرية وطبعة
اهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة اميرية ، وقد مكنه عمله مصححاً في المطبعة الاميرية
ان يقتني كثيراً مما طبع فيها وكانت هذه الكتبة اكبر متعة لي حين استطت الاستفادة
منها . وقد احتفظت بخيرها واتخذته نواة لمكتبتي التي اعتز بها وامضي الساعات فيها
كل يوم الى الان .
في حجرة في هذا البيت
ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحاً من أول اكتوبر سنة 1886، وكأن هذا
التأريخ كان ارهاصاً باني سأكون مدرساً فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء
الله ان اكون كذلك . فكنت مدرساً في مدرسة ابتدائية ، ثم في مدرسة ثانوية ثم في
عالية ، وكنت مدرساً لبنين وبنات ، ومشايخ وافندية ، وكنت رابع ولد وُلد. ولم يكن
ابي يحب كثرة الاولاد شعوراً منه بالمسؤولية ، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة
اختى ابشع وفاة.
فقد كان لي اخت في
الثانية عشرة من عمرها شاء ابي الا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها الى معلمة
تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز . وقامت يوماً بعد القهوة لضيوف المعلمة
فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت ان تطفيء نفسها اول الامر فلم تنجح
فصرخت ، ولكن لم يدركوها الا وهي شعلة نار ، ثم فارقت الحياة بعد ساعات. وكان ذلك
وانا حمل في بطن امي . فتغذيت دماً حزيناً ورضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً،
واستقبلت عند ولادتي استقبالاً حزيناً. فهل كان لذلك اثر فيما غلب علي من الحزن في
حياتي فلا افرح كما يفرح الناس ، ولا ابتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله
والراسخين في العلم .
وكان من محاسن اسرتنا استقلالنا في
المعيشة وفي البيت ، فلا حماة ولا أقارب الا ان يزوروا لماماً .
وكان بيتنا محكوماً
بالسلطة الابوية : فالاب وحده مالك زمام اموره ، لا تخرج الام الا باذنه ، ولا
يغيب الاولاد عن البيت بعد الغروب حوفاً من ضربه ، ومالية الاسرة كلها في يده يصرف
منها كل يوم ما يشاء كما يشاء ، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل ، يشعر
شعوراً قوياً بواجيه نحو تعليم أولاده ، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في
مدارسهم ، سواء في ذلك ابناؤه وبناته ، ويتعب في ذلك نفسه تعباً لا حد له ، حتى
لقد يكون مريضاً فلا يأبه بمرضه ، ويتكيء على نفسه ليلقي علينا درسه. اما ايناسنا
وادخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت اليه، ولا يرى انه واجب
عليه ، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته ، وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب
احدنا ، وفي الغيبة اذا عرضت لاحد منا ، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي ، يأكل
وحده ويتعبد وحده ، وقلما يلقانا الا ليقرئنا . أما احاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع
امنا .
وقد كان لنا جدة - هي
ام امنا - طيبة القلب شديدة التدين ، يضيء وجهها نوراً ، تزورنا من حين لآخر ،
وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها ، وكانت تعرف من القصص الشعبية - الريفية
منها والحضرية - الشيء الكثير الذي لا يفرغ ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا
نزال كذلك حتى يغلبنا النوم ، وهي قصص مفرحة احياناً مرعبة احياناً ، منها مايدور
حول سلطة القدر وغلبة الحظ ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن ، ومنها حول
العفاريت وشيطنتها ، والملوك والعظماء وذلهم امام القدر "الخ" ، وتتخلل
هذه القصص الامثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز عليها مغزى القصة .
ولكن كان بيتنا-على
الجملة- جداً لا هزل فيه ، متحفظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير ، وذلك من جد
أبي وعزلته وشدته .
ولم تكن المدنية قد
غزت البيوت ، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى امثالنا. فلا ماء يجري في البيوت وانما هو
سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل عنه
المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة . والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة
، وحسابه لكل بيت عسير ، اذ هو ياخذ ثمن مائه كل اسبوع. فتارة يتبع طريقة ان يخط
خطاً على الباب كلما احضر قربة . ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطاً او خطين
، لذلك لجأ لاسقاء الى طريقة "الخرز" فيعطي البيت عشرين خرزة ، وكلما
احضر قربة اخذ خرزة ، فاذا نفذت كلها حسب اهل البيت عليها .
وأخيراً - وانا فتى -
رأيت الحارة تحفر والانابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت واذا الماء في
تناولنا وتحت أمرنا ، واذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط
او الخرز يوزع .
وطبيعي في مثل هذه
الحال الا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول ، ولم نستضيء
بالكهرباء حتى فارقت حينا الى حي آخر أقرب الى الارستقراطية .
وطعامنا يطهى على
الخشب ثم تقدمنا فطهينا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا اخيراً فطهينا على
(وابور بريمس)
وكل اعمال البيت تقوم
بها امي . فلا خادم وخادمة ولكن يعينها على ذلك ابناؤها فيما يقضون من الخارج ،
وكبرى بناتها في الداخل .
وكان ابي مدرساً في
الازهر ومدرساً في مسجد الامام الشافعي وامام مسجد ويتقاضي من كل ذلك نحو انثي عشر
جنيهاً ذهباً . فلم نكن نعرف عملة الورق ، واذكر -وانا في المدرسة الابتدائية - ان
ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجوائد الهزلية عليها .
وكانت لا تقع في يد الناس-وخاصة الشيوخ - حتى يسرعوا الى الصيارف فيغيروها ذهباً.
وكانت الاثنا عشر جنيهاً تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع ابي ان يدخر منها
للطواريء ، اذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الاريعين جنيهاً والخمسين اليوم ، فعشر
بيضات بقرش ، ورطل اللحم بثلاثة قروش او اربعة ورطل السمن كذلك وهكذا . ومن ناحية
اخرى كانت مطالب الحياة محدودة وعيشتنا بسيطة. فابي من بيته الى عمله الى مسجده ثم
الى بيته ، لا يدخن ولا يجلس على مقهى ، وملابسنا جميعاً نظيفة بسيطة ، ومأكلنا
معتدل ليس بضروري فيه تعدد اصنافه، ولا اكل اللحم كل يوم . ولم نر فيمن حولنا عيشة
خيراً من معيشتنا تشقي بالطموح الى ان نعيش مثلها ، ولا سينما ولا تمثيل. ولكن من
حين لآخر نتصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها "قرة جوز" ادخل اليها بنصف
قرش ويكون ذلك مرة في السنة او مرتين .
وغمر البيت الشعور
الديني: فابي يؤدي الصلوات لاوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحاً ومساء ، ويصحو
مع الفجر ليصلي ويبتهل ، ويكثر من قراءة التفسير والحديث ، ويكثر من ذكر الموت
ويقل من قيمة الدنيا وزخرفتها
ويحكي حكايات الصالحين واعمالهم وعبادتهم ، ويؤدي الزكاة يؤثر بها اقرباءه ويحج
وتحج امي معه - ثم هو يربي اولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم
في اوقات الصلاة الاخرى ويسائلهم متى صلوا واين صلوا . وامي كانت تصلي الحين بعد
الحين ، وكلنا يحتفل برمضان ويصومه- وعلى الجملة فانت اذا فتحت باب بيتنا شممت منه
رائحة الدين ساطعة زاكية ، ولست انسى يوماً اقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا ، وقدمت
فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد اخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب
، فبلغ ذلك ابي فما زال يضربه حتى اغمي عليه . وكان معي يوماً قطعة بخمسة قروش
فحاولت ان اصرفها من بائع سجائر فشاهدني اخي الكبير فاخذ يسالني ويحقق معي تحقيق
"وكيل النيابة" مع المتهم ، خوفاً من ان اكون اشتري سجائر لادخنها اذ
ليس احد في البيت يحدث نفسه ان يشرب سجارة.
وبعد ، فما اكثر ما
فعل الزمان! لقد عشت حتى رايت سلطة الاباء تنهار ، وتحل محلها سلطة الامهات
والابناء والبنات واصبح البيت برلماناً صغيراً ، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل
فلا تؤخذ فيه الاصوات ولا تتحكم فيه الاغلبية ، ولكن يتبادل فيه الاستبداد.
فاحياناً تستبد الام، واحياناً تستبد البنت او الابن وقلماً يستبد الاب. وكانت
ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها ايدي الصرافين ، وكثرت مطالب الحياة لكل
فرد وتنوعت، ولم تجد راياً واحداً يعدل بينها ، ويوزن بين قيمتها ، فتصادمت
وتحاربت وتخاصمت ، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته .
وغزت المدنية المادية
البيت فنور كهربائي وراديو وتلفزيون ، وادوات للتسخين وادوات للتبريد ، واشكال
والوان من الاثاث . ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها ؟
وسفرت المرأة وكانت
أمي واخراتي محجبات - لا يرين الناس ولا يراهن الناس الا من وراء حجاب- وهكذا من
امورالانقلاب الخطير ، ولو بعث جدي من سمخراط وراى ما كان عليه اهل زمنه وما نحن
عليه اليوم لجن جنونه ، ولكن خفف من وقعها علينا انها تاتي تدريجياً ، ونالفها
تدريجياً ، ويفتر عجبنا منها واعجابنا بها على مر الزمان ، ويتحول شيئاً فشيئاً من
باب الغريب الى باب المالوف.
- 17-
..احسست حاجتي
الشديدة الى لغة اجنبية ، فدروسي في الاخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن
الانجليزية ، وانا شيق الى ان اتوسع فيها ، ومن حولي من الاساتذة العصريين
يستفيدون اكبر فائدة من مادتهم التي يحضرونها من اللغة الانجليزية او الفرنسية ،
وقد اخفقت في تعلم الفرنسية ، فلاجرب حظي في الانجليزية.
ويوماً قابلت صديقي
احمد بك امين ، وجلسنا في مقهى ، وذهب الحديث فنوناً الى ان وجدته يقول انه عثر
على كتاب انجليزي قيم لمستشرق امريكي اسمه مكدونالد ، وانه قسم كتابه الى ثلاثة
اقسام : قسم يتعلق بنظام الحكم في الاسلام ، وقسم في الفقه الاسلامي ، وقسم في
المذاهب والعقائد الاسلامية. واخذ يطري الكتاب ويحكي بعض ارائه ، فاستفزني الموضوع
وقلت : هل تستطيع الآن ان تذهب معي الى مدرسة (برليتز) لارتب دروساً لي في
الانجليزية؟ فقبل ، واقسمت ان اتعلم وان اقرأ هذا الكتاب في لغته . وذهبنا الى
المدرسة ورتبنا دروساً ثلاثة في الاسبوع بمائة وخمسين قرشاً كل شهر. واشتريت
الكتاب الاول ، وتولى تعليمي سيدة انجليزية يظهر انها فقيرة الحال، تحسن
الانجليزية لانها انجليية، وان لم تكن مثقفة الا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك
مجهوداً شاقاً ، اقرأ في البيت وأحفظ في الطريق واذاكر اذا كنت مراقباً في
الامتحان او مشرفاً على حصة العاب رياضية ، والدرسة بهذا الشكل عسيرة اذ لم اكن في
فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم اكن في بيئة تعود سمعي اللغة ، ويقول لي
الشيخ الخضري ، لقد جرب هذ التجربة مئات من طلبة دار العلوم ، فساروا خطوات ثم
وقفوا ، ولم ينجح منهم الا من كان بعثة الى انجلترا ، فقلت له سأجرب كما جربوا
ولكن سانجح اذا فشلوا .
وبعد شهرين في هذا
الجهد احضرت كتيباً صغيراً عنوانه "الاسلام Islam" للسيد امير علي ، وقلت ان
موضوعه معروف لي ومعرفة الموضوع تعين على الفهم . ولكني قرأت الصفحة الاولى فلم
افهم ، فظللت اصرف اكثر من ثلاث ساعات في الصفحة ، اكشف في المعجم العربي عن كل
كلمة حتى "من" و"عن" وانا جاد صابر. ومكثت على ذلك سنة، اتممت
فيها الجزء الاول والثاني من كتب برليتز وبدأت الجزء الثالث في السنة الثانية .
وفيه بعض فصول في الادب والانجليزي وتاريخه. فاحسست ان هذه المدرسة غير ملمة
بتاريخ الادب وانها لا تصلح لتدريس هذا الكتاب ، فبحثت عن مدرس آخر او مدرسة اخرى
.
ووفقت الى سيدة
انجليزية كان لها اثر عظيم في عقلي ونفسي .
مس بور (Power) سيدة في نحو الخامسة
والخمسين من عمرها ، ضخمة الجسم مستديرة الوجه ، يوحي منظرها بالقوة والسيطرة،
بسيطة في ملبسها وزينتها . مثقفة ثقافة واسعة ، تجيد الانجليزية والفرنسية
والالمانية ، ذات رأي تعتد به جريدة التيمس فترحب بمقالاتها ، عرفت الدنيا من
الكتب ومن الواقع ، اقامت في فرنسا سنين وفي المانيا سنين وفي امريكا سنين فكملت
تجاربها واتسع افقها ، حضرت الى مصر ووافقها جوها فاقامت فيها ولكن ليس لها من المال
ما يكفيها للاقامة طويلاً، فهي تستاجر بيتاً خالياً في ميدان الازهار وتفرش حجراته
، وتؤجرها للراغبين فتكسب من ذلك نحو ثلاثين جنيهاً في الشهر تكون اساس عيشها. ثم
هي رسامة فنانة ، تاخذ ادواتها الى سفح الهرم فترسم الصور الزيتية لمنظر الاهرام
والفيضان وما يحيط بهما من منظر جميل او نحو ذلك من مناظر طبيعية ترسمها بالزيت
وتتانق فيها ، وتقضي في رسمها الايام والاشهر وتبيعها بثمن كبير ، ثم هي تدرس
الرسم والتصوير لبنات رئيس وزارة ، ثم هي تقبل ان تدرس لي درساً في اللغة
الانجليزية بجنيهين كل شهر ، ولا تعاملني معاملة مدرسة لتلميذ، بل معاملة ام قوية
لابن فيه عيوب من تربية عتيقة.
ابتدات ادرس معها
الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز ، اقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما اخطات
، ثم اضع الكتاب واحدثها وتحدثني في أي موضوع اخر يعرض لنا. ولا ادري لماذا لا
يعجبها مني ان اضع العمامة بجانبي اذا اشتد الحر ـ بل تلزمني دائماً بوضعها فوق
راسي . ونستمر على ذلك نحو الساعتين اتكلم كثيراً وتتكلم قليلاً ، وتنفق اكثر ما
تاخذه مني في اشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض اصحابها الانجليز من رجال ونساء
الى الشاي ، وتدعوني معهم لاتحدث اليهم ويتحدثوا الى ، فاسمع لهجانهم ويتعود سمعي
نطقهم واصغي الى آرائهم وافكارهم واقف على تقاليدهم ، ومرة ترسلني الى سيدة
انجليزية صديقة لها اكبر منها سناً قد عدا عليها المرض فالزمها سريرها لاتحدث
اليها . تقصد بذلك ان هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها ، وانا
اجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام ، فاستمع الى قولها الانجليزي الكثير رغم
انفي.
وتوثقت الصلة بيننا
فكانني كنت من اسرتها ، وهي لا تعني بي من ناحية اللغة الانجليزية وآدابها فحسب ،
بل هي تشرف على سلوكي واخلاقي . لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على اصلاحهما ، ووضعت
لي مبدأين تكررهما على في كل مناسبة.
راتني شاباً في
السابعة والعشرين اتحرك حركة الشيوخ ، وامشي في جلال ووقار ، واتزمت في حياتي ،
فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئاً حتى من اللهو البريء واصرف حياتي بين دروس احضرها
ودروس القيها ، ولغة اتعلمها ، وراتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن
عميق ، وراتني لا ابتهج بالحياة ولا يتفتح صدري للسرور ، فرضعت لي مبدأ هو :
"تذكر انك شاب" تقوله في كل مناسبة وتذكرني به من حين الى حين.
والثاني انها رات لي
عيناً مغمضة لا تلتفتت الى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال
انسجام وترتيب ، فوضعت لي المبدأ الآخر : "يجب ان يكون لك عين فنية"
فكنت اذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس واتكلم في موضوعه صاحت في :
"الم تر في الحجرة ازهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير اعجابك فتتحدث عنها؟"
وكانت مغرمة بالازهار تعني بشرائها وتنسيقها كل حين ، وتفرقها في اركان الحجرة وفي
وسطها ، ويؤلمها اشد الالم ان ادخل على هذه الازهار فلا احييها ولا ابدي اعجابي
بها واعجابي بفنها في تصفيفها .
ويوماً آخر ادخل
الحجرة فاتذكر الدرس الذي اخذته في غزل الزهور فاحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل
ما احضرت من ازهار، فتلتفت الي وتقول: اليست لك عين فنية؟" اعجب من هذا
الاستنكار، وقد حييت الازهار، فتقول: الم تلحظ شيئاً؟ "فاجيل عيني في الحجرة
فلا ارى شيئاً جديداً غير الزهر الجديد، فتقول: "الم تلحظ الحجرة وقد غير وضع
اثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا ، وكانت الاريكة هنا فصارت
هاهنا؟" وتقول : "قد سئمت الوضع
القديم وتعبت عيني من رؤيته ، فغيرت وضعه لتستريح عيني" ، وهكذا.
لازمتها اربع سنوات ،
استفدت فيها كثيراً من عقلها وفنها ولكنني لا اظن انني استفدت من تكرارها على سمعي
ان اتذكر دائماً اني شاب.
انتهيت من الجزء الثالث
، واخترت ان اقرأ معها كتباً اخرى ، في الاخلاق احياناً وفي الاجتماع احياناً، وفي
آخر المرحلة قرأت معها فصولاً كثيرة من جمهورية افلاطون بالانجليزية ، فكان هذا
الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها، فكنت اقرأ الفصل فتشرحه لي ، وتبين ما طرأ
على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه الى اليوم ، وكيف طبق هذا المبدأ في
المدنية الحديثة في الامم المختلفة ، وهكذا.
ولا ادري ما الذي
انتابها فقد رايتها تكثر من القراءة في كتب الارواح ، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر
أي انها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها ، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز
روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، او تجرب تجربة اخرى ان ترسل من
روحها شارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه ان يحضر او لا يحضر ، وان يعد كذا او لا يعد ،
وهكذا، وقد نجحت في بعض الاحوال دون بعض فلم تشأ ان تعتقد ان هذا مصادفة، ولكنها
اعتقدت ان ما نجحت فيه فانما نجحت لان الامر قد استوفى شروطه، ومالم نتجح فيه لم
تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وامعنت في تركيز روحها، كل ذلك
وانا انصحها الا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لانها تامل ان تصل من ذلك الى
نجاح باهر.
وذهبت اليها يوماً
فرايتها مصفرة الوجه مضطربة الاعصاب خفاقة العينين، فسالتها عما بها، فاخبرتني
انها ذهبت اليوم صباحاً الى كوبري قصر التيل وهمت ان ترمي نفسها في النيل، ثم
رايتها نذكر لي انها اخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة اخرى،
فخرجت من عندها اسفاً باكياً، واتصلت بطبيب للامراض العقلية فحضر ورآها، واخبرني
انه لابد من ارسالها فوراً الى مستشفى للمجاذيب، وكذلك كان. وكنت اعودها من حين
الى حين، فاذا جلست اليها تحدثت كعادتها حديثاً هادئاً معقولاً، وسالتها مرة: ماذا
بها؟ فقالت لا شيء بي الا انني فقدت الارادة فاذا اطلق سراحي الان لا دري اين
اتجه. ثم تولت امرها القنصلية الانجليزية فاسفرتها الى بلدها. واخيراً -وبعد نحو
سنتين-جائني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع ايطالي ففضضته فاذا هو من مس
بور تخبرني انها شفيت من مرضها، وانها الان في روما، تتمتع بجمال مناظرها وروعة
كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها ، ثم انقطعت عني الى اليوم اخبارها رحمها
الله.
وفي هذه الفترة التي
كنت ادرس فيها مع "مس بور" جائني صديق وقال انه يعرف اسرة انجليزية
تتكون من زوج وزوجة يريدان ان يتعلما العربية وانا اعلم الزوج فهل لك ان تعلم الزوجة؟
قلت لا اعلمها بمال ولكن اتبادل معها ، فاعلمها العربية وتعلمني الانجليزية ، وعرض
عليها ذلك فرضيت.
سيدة انجليزية في
ريعان الشباب جميلة الطلعة لها عينان تبعثان في النفس معنى الصفاء والطهارة
والثقة، تعيش مع زوجها الانجليزي المدرس بالمدرسة الخديوية الثانوية عيشة
ارستقراطية فخمة. مولعان بركوب الخيل والتروض عليها عصر كل يوم ، يستمتعان بالزواج
الجديد السعيد. كنا نقضي ساعتين في الدرس مرتين في الاسبوع، ساعة تعلمني
الانجليزية وساعة اعلمها العربية واختارت لي ان اقرا معها كتاب "قصص شيكسبير
للامب"
وكنت اترقب موعد هذا
الدرس بشوق ولهفة ، وكانت هذه السيدة تغذي عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما
كانت مس بور تغذي عقلي بثقافتها واطلاعها وتجاربها.
كنت احدثها يوماً ،
وقد قامت الحرب العالمية الاولى فزل لساني ونقدت الانجليز نقداً خفيفاً امامها،
فما كان منها الا ان دمعت عينها وقالت في رقة : "اتعيب قومي وامتي!"
فخجلت خجلاً شديداً وقدرت وطنيتها التي يجرحها النسيم ، ولم اعد بعد لمثلها،
واستمررت على ذلك اكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا باس به من
العربية. وكان بصعب عليها النطق بالعين ، فكانت تقول: ان عينكم تؤلمني، وكنت اقول
في نفسي مثل قولها . وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية-نقد لا ندركه نحن
لانها لغتنا. نشانا فيها ورضعناها مع لبن امنا والفناها منذ صغرنا . قالت لي مرة:
ان اللغة العربية غير منطقية، الا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر
وهو لطيف وديع، فاولى ان نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا . وقالت
مرة الا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب ، وتقول الف كتاب، وكان الاولى ما دمت تقول
ثلاثة كتب ان تقول الف كتب . وهكذا من طرائفها الظريفة . واشتدت الحرب فجند زوجها
، وانقطع عني خبره وخبرها.
ما ذا كنت اقول لو لم
اجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فاصبحت ذا عينين، وكنت اعيش في الماضي
والحاضر، وكنت اكل صنفاً واحداً من مائدة واحدة فصرت اكل من اصناف متعددة على
موائد مختلفة، وكنت ارى الاشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها الوان
اخرى وطعوم اخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد. لو لم اجتز هذه المرحلة
ثم كنت اديباً لكنت اديباً رجعياً، يعني بتزويق اللفط لا جودة المعنى، ويعتمد على
ادب الاقدمين دون ادب المحدثين ، ويلتفت في تفكيره الى الاولين دون الآخرين ، ولو
كنت مؤلفاً لكنت جماعاً اجمع مفترقاً او افرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد . فانا
مدين في انتاجي الضعيف في الترجمة والتاليف والكتابة الى هذه المرحلة بعد المراحل
الاولى ، وهذه الزهرة الجديدة الفت باقة مع الازهار القديمة.
18
ثم ان لهذه المرحلة
تكملة . فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار
الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق، كان اكثرهم مرشحاً للبعثة الى انجلترا ثم
منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الادبي[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][1]
، شاءت الظروف السعيدة ان اتعرف بهم وان اصادقهم ، رايتهم مثقفين من غير جنس
ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة ، وثقافتي شرعية كثيراً وعصرية قليلاً ، منهم الذي بلغ
درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والادب الانجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة
في الرياضة والطبيعة والكيمياء ، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة
اكثر مما اعرف ، بحكم ثقافتهم وثقافتي. وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين
صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا اذا حضرنا ليعرض علينا رايه في كلمة اكتشف انها غير
صحيحة لانها لم ترد في معاجم اللغة ، او ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الاعجاب
بها ولو من باب المجاملة . على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر
بعض الايام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الالوان .
هذا مغرم بالقصص
الانجليزية يقرأ منها الكثير ، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما
اختار ، وتحمس لما يقول وما يعرض ، ولا يرضيه الا ان يحمس السمعون حماسته ويبتهجوا
بما يقول ابتهاجه. وكان يقول ان الاستماع للحديث فن كفن الالقاء ، من الناس من
يجيده ومنهم من لا يجيده، وانما يجيده السامع اذا تجاوب مع القائل في شعوره
وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك وبيكي للحديث الباكي وتظهر على اسارير
وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في اني اجيد الاستماع فيتحدث الى باكثر مما
يتحدث به مع غيري . وهذا الاخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويُفتن باسلوب
الاوربيين في كتابته وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات الى كلياتها
وحريتهم في تقدير الابطال والاعتداد بشخصياتهم . فقد يهدم بعضهم بطلاً اجمع الناس
على بطولته ، اويشيد بذكر مغمور اجمع الناس على خموله ، وينقد كتابة التاريخ عند
العرب . فقد احسنوا في رواية الاحداث ولم يحسنوا فلسفتها الا ماكان من ابن خلدون
فقد احسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الاحداث ، ثم هو يحاول ان يطبق هذا
المذهب فيعرض علينا من بحثه في عمر وعلي -مثلاً - على نمط جديد فيه التقدير وفيه
النقد.
وهذا عالم تخصص في
الكيمياء وجعل مسلاته الادب . فهو يقرأ في ديوان ابي الطيب وابي فراس ويتخير من
شعرهما ويحفظه وينشده ، وتلتهب عاطفته فيحاول ان يقول شعراً بعضه لا باس به . وهذا
عالم آخر كيمياوي ايضاً جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه .
اثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم ، وملا المسجد به وبهم ، قد حفظ
القرآن واطال قرءته وبذل جهداً في فهمه ، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم
ما يفهمه من نظريات الطبيعين والكيمياويين وما يقتبسه من اقوال المتدينين من
العلماء الاوروبيين . يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين ، ويعز عليه ان يسمع
الحاداً او كلمة يشتم منها الحاد بل لا يسمح ان ينقد احد امراً من امور الدين ،
ولو كان في التفاصيل . وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه ، قوي
الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر اذا قال ، جزل الاسلوب اذا كتب ، يدرس الكيمياء
والطبيعة فتكون ديناً ، يتحرج صحبه ان يذكروا امامه شيئاً يمس شعوره الديني
وعاطفته المسلمة ، ويهابونه في طربوشه اكثر مما يهابونني في عمتي.
وهذا عالم في الرياضة
ولكنه لا يقل ثقافة ادبية عن المختصين في الثقافة الادبية يقرأ في الاغاني والعقد
الفريد كما اقرا ويتذوقها وينقدها ، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة
الانجليزية في الاخلاق والاجتماع وعلم النفس ، ويتاثر بما يقرأ الىحد كبير ،
ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له ، وياتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ ، وله اسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما
يسمع ، تطبيقاً لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته ، ولابأس ان يغلو في الهدم ، ولا
بأس ان يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالامس ، وهذا وهذا مما يطول شرحه.
كل اولئك كانوا مدرسة
لطيفة لي ، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان
والمكان ، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس ، مدرسة فيها الجد والفكاهة ،
والعلم والادب ، والدين والشعر، والتقريظ والنقد ، مدرسة يكون فيها التلاميذ
استاذاً والاستاذ تلميذاً ، وان شئت فقل ان كل من فيها استاذ تلميذ ، مدرسة فيها
حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء ، تقارب فيها سن الاساتذة
والتلاميذ فتجانست مشاعرهم ، وتشابهت آمالهم ومطامحهم ، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم .
وكان لهذه المدرسة
التفاتة لطيفة الى تقويم البدن كتقويم النفس ، والعناية به كالعناية بالعقل . فما
بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز
نتحدث ، وليلنا على الكتب نحضر ! اين الهواء الطلق ؟ اين جمال الطبيعة؟ اين
الرياضة البدنية؟ اين الرحلات؟ ان كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز ،
وتخدم العقل كما تخدم الجسم ، وتغذي الروح كما تغذي البدن .
اذن - فلنشترك في ناد
من نوادي الالعاب الرياضية ، ولننظم رحلات اسبوعية ، ولاحقق انا بعض ما كانت تقوله
لي المدرسة الانجليزية "تذكر انك شاب".
وذهبنا الى نادي
الالعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه ، وكانت عمتي اول عمامة اشتركت في النادي
، وربما كانت آخرها ايضاً ، واخذت خزانة فيه ككل عضو ، اضع فيها "الفانيلا
والشورت والجزمة الكاوتش" ، فاذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست
الشورت وما اليه وتسابقت في العدو مع العدائين ، ولعبت كرة القدم مع اللاعبين ،
حتى اذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك . وقد كنت اول الامر
الهث اذا جريت ، واخفق اذا لعبت ، ثم استقام امري ، وان لم ابلغ في خفة الحركة
مبلغ صحبي ، لاني احمل من اوزار تربيتي الاولى ما لا يحملون . فاذا فرغنا من ذلك
كله ذهبنا الى خزائننا وخلعت "الشورت" ولبست الجبة والقفطان والعمامة
وخرجت من النادي شيخاً وقوراً .
ويوم الجمعة احياناً
كنا نخرج الى رحلة في جبل المقطم في الشتاء ، فيوماً الى الغابة المتحجرة ، ويوماً
الى وادي دجلة او وادي حوف في حلوان ، ويوماً الى العين الساخنة وهكذا. وكانت
رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم ، وكم قلت له : "رفقاً
بالقوارير" وهو لا يسمع ! فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس
الى غروبها ، نحمل معنا غذائنا وشربنا على ظهورنا ونسير سيراً حثيثاُ لا نستريح
الا ساعة ناخذ فيها غذاءنا ثم نسير سيرنا واعود الى البيت مضنى متعباً ، ثم انام
ملء جفوني ، واعرج بعدها في مشيي ثلاثة ايام او اربعة ، ولكني احس صفاء نفسي وصفاء
راسي . وكنت في هذه الرحلات كشاني في الالعاب ، اخيب عضواً في الاولى وابطا عضو في
الثانية : لست انسى يوماً عصيباً ذهبت فيه مع صحبي الى وادي حوف فلما بدأنا في
العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا احضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى ،
فلم يفد ذلك الا قليلاً، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى ، ودميت اصابعي ، وابطا
القوم في سيرهم ورثوا لحالي ، واخيراً جداً عثرت على حمار قبل مدخل حلوان ، وطلبت
من صاحبه ان يحملني الى المحطة باي اجر شاء ، ودخلت حلوان على حمار وحولي
الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي .
وتحررت بعض الشيء ،
فكنا نذهب احياناً الى صالة "منيرة المهدية" لسماع غنائها ومشاهدة
رواياتها ، وكنت اتاثر من بعض نغماتها اثراً يرن في اذني طول الاسبوع .
فاذا احب بعضهم ان
يذهبوا الى اكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم الا يخبروني ، لاني لا اصلح لمثل موقفهم
.
وانضم الى جماعتنا
ثلاثة من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية ، ودب في
الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متاخر في جميع مرافقه ، ونحن
الشباب يجب ان نفكر ونعمل في تقدمه واعلاء شانه رغم الاحتلال وسيطرته . فلنؤلف
لجاناً لدراسة مصر من نواحيها الختلفة : لجنة للناحية الاقتصادية ، واخرى للناحية
السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف
العلاج ، وفعلت اللجان ذلك وبدات الجماعة تعمل ، لكن عصفت الرياح باللجان كلها،
وبقيت - بحمد الله - "لجنة لتاليف والترجمة والنشر"- التي سن قانونها
احد الاعضاء القانونيين ، وقُريء على الاعضاء مجتمعين ، وعُدل ونُقح ، والتزم كل
عضو ان يدفع عشرة قروش في كل شهر ، وان يجتمع مجلس ادارتها في بيت عضو من اعضائها،
وبدأ بعض الاعضاء العلميين يؤلف كتباً في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية ، يحضر
كل باباً ويقرؤه على الاخرين فينقحونه ويهذبونه ، فاذا فرغوا منه قدموه للطبع.
فاذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش اقرض اللجنة بعض الاغنياء من الاعضاء ليتم طبع
الكتاب ، فكان هذا اول حجر في بناء اللجنة .
وقد تكونت اللجنة على
هذا المنوال سنة 1914 ، ونحن الان في سنة 1953 فيكون قد مضى عليها اكثر من ست
وثلاثين سنة ، وقد طبعت من الكتب اكثر من مائتي كتاب ، وكانت لا تقرركتاباً الا
اذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه راياً بالصلاحية او عدمها ، او
حاجته الى التعديل . ولبثت طول هذه المدة رئيساً للجنة يعاد انتخابي فيها رئيساً
لها كل عام . وازداد عدد اعضائها الى حتى شبهها الناس بالماسونية . وكل عضو فيها
يشجع اللجنة بما يقدر عليه ، واسست لها مطبعة خاصة ، كما اسست مجلة اسمها الثقافة
تنشر فيها الاراء على مبادئها واستمرت نحو
اربعة عشر عاماً ثم اوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر . وقد حزن
الاعضاء والقارئون على وقوقها ، ولكن لماذا يجدي الحزن العاطفي امام الخسائر
الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من
هذه العشرات من القروش ومن الارباح من الكتب حتى بلغت اكثر من ستين الفاً من
الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءاً كبيراً من حياتي . فكنت اذهب اليها كل يوم ادير
شؤونها واطلع على مشاكلها : واقرا بريدها واؤشر على ما يلزم في هذا البريد . وقد
كانت اللجنة تسكن اولاً في بيت عضو من اعضائها، ثم استاجرت مكاناً متواضعاً في حي
بلدي . ثم اشترت بيتاً في جي ارستقراطي بنحو 20 الف جنيه . واخيراً وبعد ان وقفت
على رجليها منحتها الحكومة مبلغاً من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة ، افردناه في
دفاتر خاصة وطبعنا به كتباً خاصة ، نبيعها بتكاليفها تقريباً ، وتحاسبنا الوزارة
على هذا البند وحده. وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي ، اسال عنها ، واحاسب
نفسي عنها كما احاسبها على اولادي ، واستعين باعضاء مجلس ادارتها الكرام على تنظيم
شؤونها ، وترتيب امورها ، واحمد الله على التوفيق فيها .
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الاصحاب الذين ذكرت بعض
صفاتهم ، وحظيت بصداقتهم. وبهؤلاء الصحاب احسست اني اقرب من عقليتهم ومزاجهم
وثقافتهم شيئاً فشيئاً ،وابتعد عن عقلية زملائي الاقدمين ومزاجهم شيئاً فشيئاً ،
ورايتني اكون لنفسي نواة من الكتب الانجليزية بجانب الكتب العربية ، واحضر دروسي
منها في الاخلاق والمنطق ، واملا الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، واذا العين تتفتح
والافق يتسع.
-20-
.....وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والازواج والزوجات
وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها او الاستغناء عنها والزواج بالاجنبيات والمصريات
، ورويت الاحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي
شقي بزواجه، وفلان الذي اضرب عن الزواج واستمتع بالجياة في اولها وشقي في اخرها
وهكذا. وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة العشرين . فصممت ان
ابت في الموضوع هل اتزوج او لا اتزوج ، واخيراً وبعد تردد طويل قررت ان اتزوج ،
ولكن نشات العقدة الثانية : من اتزوج ؟ وكان السفور في هذا الزمن في اول امره لم
يجرؤ عليه الا عدد محدود من المثقفات. فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة ،
يسمع الشاب من صديقه او احد اقاربه ان لفلان بنتاً في سن الزواج ، وقد يبلغه هذا
الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى الخاطبة وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف
اخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج او من الشباب الذين يريدون الزواج ،
وتكون واسطة بين اهل الزوج واهل الزوجة في تعريف هؤلاء باولئك ، فيتقدم احد اقارب
الشاب الى ابي الشابة او ولي امرها يعرض عليه الرغبة فاذا قبل ارسل الشاب امه وبعض
قريباته من النساء لرؤية الفتاة ، فاذا وصفوها وصفاً اقتنع به تقدم للزواج من غير
ان ينظرها ويعرف شكلها وطباعها واخلاقها .وانما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد
الزفاف.
وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي . وكنت شاباً لا باس بشكله ولا باس
باسرته ، فانا وبيتي نعد من الاوساط وانا احمل شهادة عالية ، ومرتبي نحو ثلاثة عشر
جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر ، وكنت اتلمس الزواج من امثالي في
الاوساط، لا اطلب الغنى ولا اطلب الجاه . ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في
طريقي. فكم تقدمت الى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي ، ولكن
لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين ، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت
وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة ،
والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك ، فكم قيل لي ان
ليس عندهم مكان لعمامة ، ورضي بي قوم اولا واحبوا ان يروني ، فاحببت ان اريهم اني
متمدن ، وذهبت اليهم احمل كتاباً انجليزياً وجلست اليهم وجلسوا الي وتحدثت اليهم
حديثاً عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات انجليزية فاستغربوا لذلك ،
وفهمت انهم اعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني ان الفتاة اطلت على من الشباك وانا
خارج ورات العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باتاً ان تتزوجني رغم الحاح
اهلها. وشاء القدر ان تتزوج هذه الفتاة فيما بلغني شاباً انيقاً كاتباً في وزارة
ولكنه سكير معربد اذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها ، وما زال يسوء حالها
حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت الى وانا قاض في محكمة الازبكية تطلب من زوجها
النفقة.
وهكذا لقيت العناء في الزواج . فكلما دلني صديق على فتاة فاما ان اجد
مانعاً منها او تجد مانعاً مني. فمن ارضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا ارضاه. واخيراً
دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته . فارسلت امي واختى وزوجة
الاستاذ لرؤية الفتاة فراينها ووافقن عليها ، وجعلت اسال امي واختى اسئلة عن شكلها
وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستهما في اخلاقها ونحو ذلك ، واستمع لاجابات لا
تصور شكلا ولا توضح حقيقة ، واجلس الى نفسي واعمل خيالي فيما سمعت ، فاصوغ من ذلك
شكلاً. وقد اجلس معهما مرة اخرى اسمع منها جديثاً آخر ووصفاً آخر، فاتخيل من ذلك
صورة اخرى وهكذا. واخيراً سلمت الامر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم
الخيال . وتم عقد الزواج يوم 3 ابريل سنة 1916 ، وقد اخذت يوم العقد مائة جنيه
انجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة ، وانتظرت نحو اربعة اشهر حتى
يتم اهل الزوجة الجهاز .
وكانت هذه الاشهر الاربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والاحلام اللذيذة
، بناء القصور على الاراء الفلسفية او النظريات المدونة في الكتب . فانا ازور
المكتبة الانجليزية وابحث عما كتب في الزواج ، فاعثر - مثلا - على سلسلة من الكتب
احدها فيما ينبغي للزوج ان يعلم ، وثانيها فيما ينبغي للزوجة ان تعلم وهكذا . ثم
اجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الاسرة ، وثالثاً في تربية الطفل فأقرؤها
وافكر فيها استخلص منها ما يجب ان اعمل لاسعد وعلى أي الاسس ابني اسرتي وهكذا.
وقد ذهبت بعيد الزواج الى مصور ماهر صورني صورة تذكارية احتفظت بها ،
ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الاتية: "هذه صورتي اخذت يوم الجمعة 7
ابريل سنة 1916 وسني تسع وعشرون سنة وستة اشهر ، عقب عقد زواجي باربعة ايام ، وقد
اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة ، فوضع المصور امامي كتباً من عنده وامسكت بيدي
اليسرى كتاب "مباديء الفلسفة" وكنت قد عربت اكثره واوشكت على الانتهاء .
وقد لاحظت ان اصور صورة في غاية البساطة فلم اتعمل شيئاً الا اختيار الثوب الذي
اخترته يوم عقد الزواج . وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما اشعر به من اني قادم
على حياة جديدة ومرحلة جديدة ، فقد انهيت حياة الوحدة وساقدم على حياة الاسرة ،
وانا مقتناع ان هذه البيئة الجديدة سيكون لها اثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي. . ومن
البواعث على هذا التصوير ايضاً علمي ان السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا
والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية ، على اني - والاسف يملأ فؤادي-لم
انتفع بزمن الصبا والفتوة كما كان يجب . فلم يجد المرح والنشاط واللهو-ولو كان
بريئاً- ولا الحب الى قلبي منفذاً، بل تشايحت منذ الصبا - وهذا ولا شك اثر التربية
المنزلية . فقد كانت تربية اساسها التخويف والارهاب ، ولم يكن في بيتي أي مظهر من
مظاهر البهجة والسرور. واني في هذه السنة احس شيئاً من النشاط على اثر دروسي
الانجليزية مع مدرسة كانت تص